فصل: الشاهد التاسع بعد الثلاثمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الرابع بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد المفصّل‏:‏ الكامل

يا قرّ إنّ أباك حيّ خويلد *** قد كنت خائفة على الإحماق

لما تقدّم قبله‏.‏ وذهب أبو عليّ في الإيضاح الشّعريّ عند ذكره هذه الشواهد، إلى أنّ لفظ حيّ زائد لا غير، وتبعه الزمخشريّ في المفصّل والبيضاوي في اللبّ ، وتعقبّه شارحه الشيّد عبد الله بأنّه غير زائد من حيث المعنى، فإنّه يفيد نوعاً من تحقير ما أضيف إليه حيّ، كأنّه يقول‏:‏ هذا شخصٌ ليس سوى أنّه حيّ، وشبحٌ ما فيه سوى أنّه حسّاس‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذه النّكتة قاصرة على هذا البيت لا تتمشّى له في غيره‏.‏ وقرّ بضم القاف‏:‏ مرخّم قرّة‏.‏ وحيّ خويلد‏:‏ بدلٌ وعطف بيان من أباك‏.‏ وجملة قد كنت خائفه خبر إنّ‏.‏ والإحماق‏:‏ مصدر أحمق الرجل‏:‏ إذا ولد له ولدٌ أحمق، وكذا أحمقت المرأة؛ وأمّا حمق بدون ألف فهو من الحمق بالضم وهو فسادٌ في العقل، وهو من باب تعب، ووصفه حمقٌ بكسر الميم؛ وأما أحمق ففعله حمق بالضمّ والأنثى حمقى‏.‏ وعلى متعلقة بخائفه، يقال‏:‏ خفته على كذا أي‏:‏ خفت منه‏.‏

والمعنى إنّني كنت أرى من أبيك مخايل تدلّ على أنّه يلد ولداً أحمق، وقد تحقّق بولادته إيّاك‏.‏ ومثل هذا أبلغ من أن يقول له‏:‏ أنت أحمق؛ لأنّ ذلك يشعر بتحقّق ذلك فيه، أي‏:‏ كان معروفاً من أبيك قبل أن يلدك‏.‏ فهذا أبلغ من دعوى الحمق فيه الآن‏.‏

وإدراك مثل هذه المعاني لا يكاد يحصل بالتعبير، وإنما هو أمرٌ في الغالب يدرك بالقوّة التي جعلها الله تعالى في أهل هذا اللسان‏.‏ كذا فيأمالي ابن الحاجب‏.‏

وهذا البيت نسبه أبو زيد في نوادره إلى جبّار بن سلمى بن مالك، قال‏:‏ وهو جاهليّ‏.‏

وأورد بعده‏:‏

وكأنّ حياً قبلكم لم يشربو *** فيها بأقلبةٍ أجنّ زعاق

هذا الحيّ بمعنى القبيلة‏.‏ وأقلبة جمع قليب بمعنى البئر، قال الرياشيّ‏:‏ هذا يدلّ على تذكير القليب، لأنّه قال أقلبة؛ والجمع قلب، ولكن جاء به على رغيف وأرغفه للجمع القليل‏.‏ انتهى‏.‏

والباء بمعنى من‏.‏ وأجنّ فعلٌ ماض والنون الأخيرة فاعله تعود على أقلبة، لما سكن لها لام الفعل أدمغت فيها، يقال‏:‏ أجن الماء ياجن بضم الجيم وكسرها‏.‏ إذا تغيّر‏.‏ وضمير فيها للمنيّة‏.‏ وضرب القليب مثلاً لها‏.‏ وقد يكون القليب القبر، قاله ابن برّيّ في شرح أبيات إيضاح الفارسيّ ‏.‏ والزّعاق ، بضم الزاي بعدها عين مهملة‏:‏ الماء المرّ الغليظ لا يطاق شربه من أجوحته‏.‏ وإذا كثر ملح الشيء حتّى يصير إلى المرارة فأكلته قلت‏:‏ أكلته زعاقاً‏.‏ وحبّار ، بفتح الجيم وتشديد الموحّدة وآخره راء مهملة‏.‏ وقد أورده الآمديّ في المؤتلف والمختلف وقال‏:‏ هو جبّار بن سلمى بن مالك من بني عامر بن صعصعة‏.‏

وأنشد له المفضّل في المقطّعات‏:‏ الوافر

وما للعين لا تبكي بجير *** إذا افترّت عن الرّمح اليدان

وما للعين لا تبكي بجير *** ولو أني نعيت له بكاني

وذكر ثلاثة من الشعراء يوافقونه في اسمه، أحدهم‏:‏ جبّار بن مالك بن حمار بن شمخ بن فزارة‏.‏

وثانيهم‏:‏ جبّار بن عمرو الطّائي قاتل عنترة العبسيّ، وهما جاهليّان أيضاً‏.‏

وثالثهم‏:‏ جبّار بن جزء بن ضرار، وهو ابن أخي الشّمّاخ، وهذا إسلاميٌّ ابن صحابيّ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس بعد الثلاثمائة

الطويل

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكم *** ومن يبك حولاّ كاملاً فقد اعتذر

على أنّ لفظ اسم مقحم عند بعض النحاة‏.‏

قال ابن جنّي في الخصائص‏:‏ هذا قول أبي عبيدة، وكذلك قال في بسم الله، ونحن نحمل الكلام على أنّ فيه محذوفاً‏.‏ قال أبو عليّ‏:‏ وإنّما هو على حدّ حذف المضاف، أي‏:‏ ثم معنى السلام عليكما، واسم معنى السلام هو السلام، وكأنه قال‏:‏ ثمّ السلام عليكما‏.‏

فالمعنى لعمري ما قاله أبو عبيدة، لكنّه من غير الطريق التي أتاه هو منها، ألا تراه هو اعتقد زيادة شيء واعتقدنا نحن نقصان شيء‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن السيد البطليوسيّ في تأليف ألّفه في الاسم‏:‏ تقديره ثمّ مسمّى السّلام عليكما، أي‏:‏ ثم الشيء المسمّى سلاماً عليكما، فالاسم هو المسمّى بعينه وهما ينواردان على معنى واحد‏.‏

وذهب أبو عبيدة إلى أن لفظ اسم هنا مقحم‏.‏ وعند أبي عليّ فيه مضاف محذوف وتقديره مسمّى اسم السلام‏.‏ انتهى‏.‏

وردّ عليه الإمام السّهيليّ في كتابه المعتبر فقال‏:‏ هذا جوابٌ لا يقوم على ساق، ولا يكاد يفهم لما فيه من الاستغلاق‏.‏ وقد تكلّف في هذا التأليف وتعسّف، ومن ألّف فقد استهدف‏.‏

والأحسن أن يقال‏:‏ لم يرد الشاعر إيقاع التسليم عليها لحينه، وإنّما أراده بعد الحول‏.‏ فلو قال‏:‏ ثم السّلام عليكما، لكان مسلّماً في وقته الذي نطق به في البيت، فلما ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ، أي‏:‏ إنما لفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك السّلام دعاءٌ، فلا يتقيّد بالزمان المستقبل، وإنّما هو لحينه، فلا يقال‏:‏ بعد الجمعة اللهم ارحم زيداً، وإنما يقال‏:‏ اغفر لي بعد الموت، وبعد ظرف للمغفرة، والدعاء واقع لحينه‏.‏

فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفاً للدّعاء صرّحت بلفظ فقلت‏:‏ بعد الجمعة أدعو بكذا، وألفظه، ونحوه، لأنّ الظّروف إنّما تقيّد بها الأحداث الواقعة خبر وأمر ونهياً، وأما غيرها من المعاني كالعقود والقسم والدّعاء والتمني والاستفهام، فإنّها واقعة لحين النطق بها‏.‏

فإذا قال‏:‏ بعد بعد الحول والله لأخرين، فقد انعقد اليمين حين ينطق به، ولا ينفعه أن يقول‏:‏ أردت أن لا أوقع اليمين إلاّ بعد الحول؛ فإنّه لو أراد ذلك قال‏:‏ بعد الحول أحلف وألفظ باليمين‏.‏ فأمّا الأمر والنهي والخبر، فإنّما تقيّدت بالظروف لأنّ الظروف في الحقيقة إنّما يقع فيها الفعل المأمور به والمخبر به، دون الأمر والخبر، فإنّهما واقعان لحين النطق بهما، فإذا قلت‏:‏ اضرب زيداً يوم الجمعة، فالضرب واقع في اليوم وأنت اليوم آمره‏.‏

قلو أنّ لبيداً قال‏:‏ إلى الحول ثمّ السّلام عليكما، كان مسلماً لحينه، وقد أراد إنيّ لا ألفظ بالتسليم والوداع إلاّ بعد الحول؛ ولذا ذكر الاسم الذي هو اللفظ، ليكون بعد الحول ظرفاً‏.‏ انتهى كلام السهيلي‏.‏

والمراد من قوله‏:‏ ثمّ اسم السّلام عليكما الكناية عن الأمر بترك ما كان أمرهما به، وهو سلام توديع‏.‏ وأتى بثمّ لأنّها للتراخي والمهلة‏.‏ وقد تعسّف قومٌ لإخراج الاسم عن الزيادة بجعل السلام اسم الله تعالى، ثم اختلفوا فقال بعضهم‏:‏ عليكما اسم فعل، أي‏:‏ الزما اسم الله واتركا ذكري‏.‏ وفيه أنّ تقديم اسم العفل لا يجوز إلاّ عند الكسائيّ؛ على أنّ الرواية رفع اسمٍ لا نصبه‏.‏

وقال جماعةٌ منهم شارح اللبّ‏:‏ إنّ المعنى ثم حفظ الله عليكما، كما يقال للشيء المعجب‏:‏ اسم الله عليك، تعويذاً له من السوء‏.‏ ففي ذكر الاسم تفخيم وصيانة للمسمّى عن الذكر‏.‏

وقال الشّلوبين في حاشية المفصّل‏:‏ أجاب بعضهم بأنّ السّلام هنا اسمٌ من أسماء الله تعالى، والسّلام عبارةٌ من التحية، وهذا هو الذي أراد، ولكنه شرّفه بأن أضافه إلى الله تعالى لأنّه أبلغ في التحية، كأنه يقول‏:‏ لو وجدت سلاماً أشرف من هذا لحيّيتكم به، ولكنّي لا أجده لأنه اسم السلام‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل‏:‏ قوله ثم اسم السلام عليكما، أي‏:‏ حفظ الله عليكما، والاسم مقحم، وثمّ تستعمل في معنى الترك والإعراض‏.‏ هذا كلامه، ولا يخفى ما فيه من الخبط الظاهر‏.‏

وهذا البيت من أبيات للبيد بن ربيعةبن عامر الصّحابيّ، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

روي أنّه لما حضرته الوفاة قال لا بنتيه‏:‏

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهم *** وها أنا إلاّ من ربيعة ومضر

فقوما وقولا بالذي تعلمانه *** ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر

وقولا‏:‏ هو المرء الذي لا صديقه *** أضاع ولا خان الخليل ولا غدر

إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وبعد وفاته كانتا تلبسان ثيابهما في كلّ يوم وتأتيان مجلس جعفر بن كلاب قبيلته فترثيانه، ولا تعولان، فأقامتا على ذلك حولاً كاملاً ثم انصرفنا‏.‏

وقوله‏:‏ تمنّى ابنتاي هو مضارع، وأصله تتمنّى بتاءين‏.‏ وزعم بعضهم أنّه فعل ماض، ولو كان كما زعم لقال تمنت، ولا موجب لحمله على الضرورة‏.‏

وقوله‏:‏ وهل أنا الخ ، أي‏:‏ جميع آبائي من ربيعة ومضر قد ماتوا ولم يسلم أحدٌ منهم من الموت، فكذلك أنا لا بدّ لي من الموت‏.‏

وقال بعض فضلاء العجم في أبيات المفصّل معناه‏:‏ وما أنا إلاّ من الكرام الأشراف، ومن كان منهم لا يعيش طويلاً، لأنّ الكرام قليلة الأعمار، وهذا كلامه، وليس هذا معنى الشعر، ويكذّبه أن لبيداً من المعمّرين كما تقدم في ترجمته‏.‏

وقوله‏:‏ فقوما ، الفاء فصيحةٌ، لأنّ المعنى إذا ثبت أني ربيعة أموات كما ماتوا، فقوما بعد موتي للعزاء وقولا في الرثاء ما تعلمانه من الصفات الحميدة وابكيا إن أردتما، ولا تخمشا بأظافير كما ولا تحلقا شعركما‏.‏

ويقدّر ابكيا لقوله ولا تخمشا الخ، وذلك أنّ خمش الوجه وحلق الشعر لا يكون إلاّ مع البكاء، والبكاء مباح ما لم يكن فيه خمش الوجه وحلق الشعر ولطم خدّ‏.‏

وقوله‏:‏ لا صديقه ، مفعول مقدم لقوله أضاع، ومفعول غذر محذوف وهو ضمير الخليل وأنّ غذر منّزل منزلة اللازم، أي‏:‏ لم يحصل منه غدرٌ لأحد‏.‏

وقوله‏:‏ إلى الحول متعلّق بقوله‏:‏ قوما، أي‏:‏ امتثلا ما قلت لكما إلى الحول، وإنّما قال إلى الحول لأنّ الزمان ساعاتٌ وأيامٌ وجمعٌ وشهورٌ وسنون، والسّنون هي النهاية، فالحول والسنة مدّة هي نهاية الزمان في التقسيم إلى أجزائه‏.‏

ويمكن أن يكون ذلك لما روي في بعض الآثار‏:‏ أن أرواح الموتى لا تنقطع من التردّد إلى منازلهم في الدنيا إلى سنة كاملة، فكأنّه إنّما أمرهما بما ذكر من الذكر والدّعاء وغير ذلك، ليشاهد ذلك منهما، ولذلك قال‏:‏ ومن يبك جولاً الخ ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّما وقّت بالحول لأنّه مدّة عزاء الجاهلية، وهذا لا يصحّ هنا لأنه قائله صحابيّ واعتذر بمعنى أعذر، أي‏:‏ صار ذا عذر، كذا في الصحاح‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ عليكما لابنتيه كما تقدّم، ومنه يعلم غفلة بعض شرّاح المفصّل في قوله‏:‏ المعنى بكيت عليكما، أيها الخليلان ثم السلام عليكما، يعني تركت البكاء فإنّ من يبكي حولاً فقد مضى حقّ الخليل‏.‏

وعجيبٌ من صاحب الكشف في سورة المؤمن قوله‏:‏ إنّ لبيداً قال ذلك يرثي أخاه لأمّه وهو أربد وابن عمه عامر بن الطفيل، لما أصابهما ما أصابهما بدعوة من النبي صلّى الله عليه وسلم‏.‏

تتمة رأيت في التذكرة الحمدونية أنّ الحسن ابن الحسن بن عليّ رضي الله عنهم، لما مات قامت زوجته بنت الحسين على قبره سنة ثم رفعت الفسطاط وأنشدت‏:‏

إلى الحول ثمنّ السّلام عليكم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فسمع صوتٌ من جانب القبر‏:‏ أهلٌ وجدوا ما طلبوا، وسمع من الجانب الآخر‏:‏ بل يئسوا فانقلبوا‏.‏

ومثل هذا ما رواه ان الزّجاجيّ في أماليه الوسطى بسنده عن إسماعيل بن يسار قال‏:‏ مات ابنٌ لأرطاة بن سهيّة المرّيّ، فلزم قبره حولاً، يأتيه بالغداة فيقف عليه فيقول‏:‏ أي عمرو، هل أنت رائحٌ معي إن أقمت عندك إلى العشيّ‏!‏ ثم يأتيه بالمساء فيقول مثل ذلك، فلما كان بعد الحول أنشأ متمثّل‏:‏ الطويل

إلى الحول ثم اسم السّلام عليكم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وأنشد بعد هذا أبياتاً جيّدة في هذا الباب رواها الزجّاجيّ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس بعد الثلاثمائة

وهو من أبيات المفصّل أيض‏:‏ الطويل

تداعين باسم الشّيب في متثلّم *** جوانبه من بصرة وسلام

لما تقدّم قبله‏:‏ من أنّ اسماً مقحمٌ‏.‏ قال الشّلوبين في حاشيته على المفصّل‏:‏ ردّ هذا بعض المتأخرين وقال‏:‏ لو كان البيت على إقحام الاسم لقال باسم شيب، والشاعر إنّما قال باسم الشّيب بالألف واللام، ولفظهما غير موجود في صوت الإبل، فإنّما أراد تداعين بصوت يشبه في اللفظ اسم الشيب أعني جمع أشيب‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ وجود أل لا يضرّ، فإنّها زيدت في الحكاية لا أنّها من المحكيّ، على أنّ الصّاغانيّ قال في العباب‏:‏ الشّيب حكاية أصوات مشافر الإبل عند الشرب‏.‏ وأورد هذا البيت‏.‏

والنون في تداعين ضمير القلص، أي‏:‏ النوق الشوابّ‏.‏ والمتثلم‏:‏ بكسر اللام المشدّدة، وهو المتهدّم والمتكسّر، أراد الحوض المتثلّم‏.‏ وجملة جوانبه من بصرة صفة المتثلّم‏.‏ والبصرة ، بفتح الموحدة‏:‏ حجارة رخوة فيها بياض، وقيل تضرب إلى السواد‏.‏ والسّلام ، بكسر السين المهملة‏:‏ جمع سلمة بفتحها وكسر اللام، وهي الحجر، وقيل الحجر الرقيق‏.‏ وإنّما ذكرهما لبيان الواقع‏.‏

وهذا البيت من قصيدةٍ لذي الرّمّة تقدّم شرح بعضها مع هذا البيت في الشاهد الثامن في أوائل الكتاب‏.‏ وقد وصف إبلاً وارداتٍ على حوض متهدّم فشربن الماء، فيقول‏:‏ دعا بعض الإبل بعضاً إلى الشرب بصوت مشافرها عند شرب الماء من ذلك الحوض، أي‏:‏ إذا سمع كلٌّ منها صوت تجرّع الماء من الآخر ازداد رلاغبةً في الشّرب، فكان ذلك كأنّه دعاءٌ إلى الشرب‏.‏

وأنشد بعد، وهو

الشاهد السابع بعد الثلاثمائة

البسيط

لاينعش الطّرف إلاّ ما تخونه *** داع يناديه باسم الماء مبغوم

على أنّ اسماً مقحم‏.‏ قال ابن الحاجب في شرح المفصّل‏:‏ النداء إنّما هو باللفظ، فلو حمل الاسم على اللفظ لختلّ المعنى‏.‏ والذي يجعل الاسم المسمّى في قوله ثمّ اسم السلام عليكما، يجعله من باب ذات يوم، ويتأول قوله باسم الماء، على أن المراد بمسمّى هذا اللفظ، ويجعله دالاً على قولك ماء، وهو حكاية بغام الظّبية‏.‏

ويقوّي ذلك استعماله استعمال رجل وفرس بإدخال اللامعليه وخفضته وإضافته، ولولا تقديره اسماً لذلك لم يجرهذا المجرى‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن جنّي في الخصائص‏:‏ ذهب أبو عبيدة إلى زيادة الاسم في قوله ثم اسم السلام عليكما، وفي قوله باسم الماء مبغوم، ونحن نقول إن فيه محذوفاً، أي‏:‏ اسم معنى السلام *** إلى آخر ما نقلناه عنه قبل هذا‏.‏

وزيادة الاسم هنا لا تتّجه، لأنّ الدّاعي هنا هو الظبية، وإنّما دعت ولدها بقولها‏:‏ ماء ماء، فلو كان على إقحام الاسم لقالت باسم ماء ماء، والماء بالألف واللام ليس إلاّ الماء المشروب، فكيف يريد حكاية صوتها‏!‏ ولكنّ الشاعر ألغز حيث أوقع الاشتراك بين لفظ الماء وصوتها، كأنه اللفظ المعبّر به عن الماء المشروب‏.‏ كذا في حاشية المفصّل للشّلوبين‏.‏

وهذا كلّه مأخوذ من كلام أبي عليّ في إيضاح الشعر قال‏:‏ فإن قيل إنّ هذا من قبيل غاق، يعني الصوت، فكيف ألحق لام التعريف، وقال آخر‏:‏ ونادى بها ماءٍإذا ثار ثورةً على القياس‏!‏ فالقول فيه أن قوله باسم الماء، إن شئت قلت إنّ تقديره يناديه بالماء والاسم دخوله وخروجه سواء، كقوله‏:‏ ثمّ ام السلام عليكما‏.‏ وإ، شئت جعلت الاسم المسمّى على الإتباع، لمصاحبته له وكثرة الملابسة‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ إنّ التقدير يناديه باسم معنى الماء، فحذف المضاف، واسم معنى الماء هو الماء، فيكون التقدير باسم ماء، وتكون أل فيه زائدة لأنّها لم تلحق هذا القبيل، ألا ترى أنّهم لم يلحقوه غاق وصه ونحوه‏.‏ انتهى كلامه مختصراً‏.‏

والبيت من قصيدة لذي الرّمّة تغزّل فيها بمحبوبته خرقاء، ومطلعها‏:‏

أأن توهّمت من خرقاء منزلةً *** ماء الصبّابة من عينيك مسجوم

ويأتي شرحه إن شاء الله تعالى في الحروف المشبّهة بالفعل‏.‏

وقبل البيت الشاهد‏:‏

كأنّها أمّ ساجي الطّرف أخذله *** مستودعٌ خمر الوعساء مرخوم

كأنه بالضّحى يرمى الصّعيد به *** دبّابةٌ في عظام الرّأس خرطوم

لا ينعش الطّرف‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقوله‏:‏ كأنها ، أي‏:‏ كأنّ خرقاء أمّ غزال ساجٍ طرفه، والسّاجي‏:‏ الساكن للحداثة‏.‏ وأخذلها ، أي‏:‏ خلّفها عن قطيعها فأقامت عليه فخذلت هي بالبناء للمفعول، وهي خاذل وهو خاذل‏.‏ والمستودع فاعل أخذلها، وهو اسم مفعول أراد به الغزال، يقول‏:‏ استودعته أمّه خمر الوعساء خوفاً عليه‏.‏ والوعساء‏:‏ الأرض الليّنة لا يبلغ تربها أن يكون رملاً‏.‏ ويقال الوعساء رابيةٌ من رمل‏.‏ والخمر ، بفتح الخاء المعجمة والميم‏:‏ الشجر الساتر‏.‏ ومرخوم ، بالخاء المعجمة أي‏:‏ محبوب، يقال‏:‏ ألقى عليه رخمته، وإن عليه الرحمة بالتحريك، أي‏:‏ محبّة‏.‏

وقوله‏:‏ كأنّه ، أي‏:‏ كأنّ الغزال في وقت الضّحى سكران رماه على الصعيد الخمر‏.‏ والصعيد‏:‏ الأرض‏.‏ والدبّابة‏:‏ الخمر، وإنما شبّه الغزال في ضعفه وغلبة النعاس عليه وفتور عظامه بالسّكران الذي غلبت عليه الخمر‏.‏

وقوله‏:‏ لا ينعش الطّرف الخ فاعل ينعش ضمير ساجي الطرف، وهو الغزال، والطرف مفعوله، ونعش كرفع معنى ووزناً، ومضارعهما مقتوح العين‏.‏

وروي أيض‏:‏ لا يرفع الطّرف‏:‏ يصفه بكثرة النوم، لأنّه يغلب على الطفل لرطوبة مزاجه‏.‏ يقول‏:‏ لا يرفع طرفه ولا جفن عينه، من شدّة نعاسه، إلاّ أن تأتي إليه أمّه فيسمع حسّه وصوتها، فعند ذلك ينتعش ويقوم‏.‏ والتخوّن‏:‏ التعهد، يقال للحمّى‏:‏ تتخوّن فلاناً، أي‏:‏ تتعهده، وأصل التخوّن التنقصّ، ويقال‏:‏ تخوّنني فلانٌ حقّي، إذا تنقّصك‏.‏

قال الجوهريّ‏:‏ يقول‏:‏ الغزال ناعس لا يرفع طرفه إلا أن تجيء أمّه وهي المتعهدة له، ويقال‏:‏ إلاّ ما تنقّصه نومه دعاء أمّه له ‏.‏ وتخوّنه فعل ماض فاعله داعٍ المراد به أمّه‏.‏

وأخطأ المظفريّ في شرح المفصا حيث قال‏:‏ تخوّنه فعل مضارع حذف منه التاء، وداع بدل من الضمير في تخوّنه وه يالظّبية‏.‏ انتهى‏.‏ وما مصدريّة وقبلها وقت محذوف أي‏:‏ لا يرفع طرفه إلاّ وقت تعهّدها إيّاه بهذه اللفظة وهي ماء ماء‏.‏ وحكى صوتها، وفعله من باب ضرب‏.‏ وبغام الناقة‏:‏ صوتٌلا تفصح به‏.‏ وبغمت الرجل‏:‏ إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدّثه به‏.‏ قال الأصمعيّ في شرحه هنا‏:‏ ومبغوم‏:‏ مردودٌ إلأى الصوت، بغم به فهو مبغوم، كما تقول قيل فهو مقول‏.‏

أشار بهذا إلى أنّه صفة داعٍ، بمعنى أنّه يجيبه ولده بماء ماء أيضاً‏.‏ وقيل هو خير مبتدأ محذوف أي‏:‏ دعاؤه مبغوم، فلم يذكره اكتفاءً بما في داع من الدعاء، ومعناه دعاء ذلك الداعي بغامٌ غير مفهوم‏.‏ وقيل فاعل يناديه‏.‏ وهذان القولان تعسّف‏.‏ ويناديه صفة لداع، قدم الوصف الجمليّ على الوصف المفرد‏.‏ وقيل يناديه حال من داعٍ، وفيه نظر لأنّه يلزم الفصل بين الصفة والموصوف‏.‏

وقد تقدّمت ترجمة ذي الرّمّة في الشاهد الثامن في اوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد المفصّل‏:‏ الوافر

ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

على أن لفظ مقام مقحم، وإليه ذهب الزمخشريّ في المفصّل والبيضاويّ في اللبّ ، قال شارحه السيد عبد الله‏:‏ وفيه نظر، لأنّه يفيد تأكيد نفي الذئب لأنّه إذا نفى موضع قيامه فقد نفاه قطعاً‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربّه رعبٌ لا يفيده لو لم يذكر المقام‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا هو أجاب به الشارح المحقّق، وإليه ذهب صاحب الكشّاف في حم السجدة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونأى بجانبه على أنّه يوضع الجانب موضع النفس، فإنه ينزّل جانب الشيء ومكانه وجهته منزلة وجهته منزلة نفسه فيقال‏:‏ حضرة فلان ومجلسه، وكتبت إلى جانبه وجهته، والمراد نفسه، ومنه مقام الذئب، وهو لبذئب نفسه‏.‏

وسبقهم إلى هذا ابن قتيبة في أبيات المعاني فإنه قال‏:‏ مقام الذئب، أراد الذئب نفسه، أي‏:‏ نفيت الذئب عن مقامه‏.‏

وهذا البيت من قصيدة عدّتها أربعة وثلاثون بيتاً للشمّاخ بن ضرار، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة مدح بها عرابة بن أوس‏.‏ وليس لذي الرمة كما زعم العلامة الشّيرازيّ في سورة الرحمن، وتبعه الفاضل اليمني‏.‏ وهذا بعد مطلعها‏:‏

وماءٍ قد وردت لوصل أروى *** عليه الطّير كالورق اللّجين

ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذّئب كالرّجل اللّعين

إلى أن قال مخاطباً لناقته‏:‏

إذا بلّغتني وحملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين

أفاد سماحةً وأفاد مجد *** فليس كجامدٍ لحزٍ ضنين

إذا ما ريةٌ رفعت لمجدٍ *** تلقّاها عرابة باليمين

فنعم المرتجى ركدت إليه *** رحىً حيزومها كرحى الطّحين

إذا ضربت على العلات حطت *** إليك حطاط هاديةٍ شنون

توائل من مصكٍِّ أنصبته *** حوالب أسهريّه بالذّنين

متى ينل القطاة يرك عليه *** بحنو الرّأس معترض الجبين

شجٍ بالرّيق إذ حرمت عليه *** حصان الفرج واسقة الجنين

طوت أحشاء مرتجةٍ لوقتٍ *** على مشجٍ سلالته مهين

إلى أن قال‏:‏

إليك بعثت راحلتي تشكّى *** هزالاً بعد مقحدها السّمين

إذا بركت على شرفٍ وألقت *** عسيب جرانها كعصا الهجين

إذا الأرطى توسّد أبرديه *** خدود جوازئٍ بالرّمل عين

كأنّ محاز لحييها حصاه *** جنابا جلد أجرب ذي غضون

وهذا المقدار نصف القصيدة، وإنّما سقناه لأن فيه شواهد‏.‏

وقوله‏:‏ وماء قد وردت الخ ، الواو واو ربّ وجوابها قوله الآتي‏:‏ ذعرت‏.‏ وأروى‏:‏ اسم المرأة‏.‏ واللّجين ، بفتح اللام وكسر الجيم، قال شارح ديوانه هنا‏:‏ اللجين الذي قد ركب بعضه بعضاً فتلجّن كما يتلجّن الخطميّ ويتلزج‏.‏

ويقال‏:‏ اللجين‏:‏ المبلول من الورق وغيره، تقول لجنته، إذا بللته‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو عليّ الفارسيّ في الإيضاح الشعريّ‏:‏ أما الطير فيرتفع بلظرف بلا خلاف، وأما قوله‏:‏ كالورق اللّجين فإنّه يحتمل ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون حالاً من الطير، والآخر‏:‏ أن يكون وصفاً للماء تقديره‏:‏ وماء كالورق اللجين لوصل أروى عليه الطير‏.‏

ومثل قوله‏:‏ وماء كالورق اللجين في المعنى، قول علقمة‏:‏ الطويل

فأوردته ماءً حماماً كأنّه *** من الأجن حنّاءٌ معاً وصبيب

فكما شبّه خثورة الماء لتقادم عهده بالواردة بالحنّاء، كذلك شبّه الشمّاخ بالورق اللجين‏.‏

وقوله‏:‏ عليه الطير ، على هذا، قد حذف منه المضاف‏.‏ ومثل ذلك قول الهذليّ‏:‏ المتقارب

تجيل الحباب بأنفاسه *** وتجلو سبيخ جفال النّسال

السبيخ‏:‏ ما نسل من ريش الطير‏.‏

وقال الأعشى‏:‏ الخفيف

وقليب أجنٍ كأنّ من الر *** يش بأرجائه سقوط نصال

وإن جعلت كالورق اللجين حالاً للطير، صار فيه ضميره، ويكون معنى عليه الطير أنّ الطير اتخذت فيه الأوكار لخلائه وكثرتها عليه، وقلة من يرده، فالطير لكثرتها عليه وتكابسها فيه كالورق اللجين‏.‏

ومثل ذلك في المعنى قول الراعي‏:‏ الوافر

بدلوٍ غير مكربةٍ أصابت *** حماماً في جوانبه فطارا

كأنّه استقى بسقرةٍ فلذلك لم تكن مكربة، والطير قد اتخذت فيه الأوكار للخلاء‏.‏ فقوله‏:‏ كالورق اللجين، مثل قولك صائداً به وصائد به، بعد قولك‏:‏ مررت برجل معه صقر‏.‏ فجعلته مرةً حالاً من الهاء في معه، وأخرى صفة لرجل‏.‏ انتهى‏.‏

وقال شرّاح أبيات المفصّل‏:‏ اللجين‏:‏ الساقط من ورق الشجرعند الضرب بالعصا‏.‏ قالوا‏:‏ المعنى اجتمعت على ذلك الطير شبيهةً بالورق الساقط من الشجر، في اصفراره، لأنّه في القفر فلا يرده واردٌ من الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ذعرت به القطا الخ ، يريد أنّه جاء إلى متنكراً‏.‏ وذعرت‏:‏ خوّفت ونفرّت‏.‏ ونفيت‏:‏ طردت وأبعدت‏.‏ والباء بمعنى في، وخصّ الذئب والقطا لأنّ القطا أهدى الطير، والذئب أهدى السباع، وهما السابقان إلى الماء‏.‏

قال شارح الديوان‏:‏ أي‏:‏ ذعرت القطا بذلك الماء، ونفيت عن ذلك الماء مقام الذئب، أي‏:‏ وردت الماء فوجدت الذئب عليه فنحّيته عنه، أراد مقام الذئب كالرجل اللعين المنفيّ المقصى‏.‏ انتهى‏.‏

فاللعين على هذا بمعنى الطّريد، وهو وصف للرجل، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة في أبيات المعاني قال‏:‏ اللعين المطرود وهو الذي خلعه أهله لكثرة جناياته‏.‏ وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل‏:‏ اللعين‏:‏ المطرود الذي يلعنه كلّ أحد ولا يؤويه، أي‏:‏ هذا الذئب خليعٌ لا مأوى له كالرجل اللعين‏.‏ وقال صاحب الصحاح‏:‏ الرجل اللّعين‏:‏ شيء ينصب في وسط الزّرع يستطرد به الوحوش‏.‏ وانشد هذا البيت‏.‏

وقد أغرب أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي بقوله‏:‏ كان الرجل في الجاهلية إذا غدر وأخفر الذمة جعل له مثالٌ من طين ونصب، وقيل‏:‏ ألا إنّ فلاناً قد غدر فالعنوه، كما قال الشاعر‏:‏ الكامل

فلنقتلنّ بخالدٍ سرواتكم *** ولنجعلنّ لظالمٍ تمثالا

فالرجل اللعين هو هذا التمثال‏.‏ هذا كلامه‏.‏ فلينظر على هذا ما معنى البيت‏.‏

وكذلك في قول أبي عبيدة خفاءٌ حيث قال‏:‏ إنّما يريد مقام الذئب اللعين كالرجل، نقله عنه ابن قتيبة‏:‏ في أبيات المعاني ، وأبو عليّ‏:‏ في المسائل البصرية ‏.‏

وقوله‏:‏ إذا بلغتني وحملت رحلي ، البيت، قال المبّرد في الكامل‏:‏ قد أحسن كلّ الإحسان في هذا البيت، يقول‏:‏ لست أحتاج إلى أن أرحل إلى غيره‏.‏ وقد عاب بعض الرواة قوله‏:‏ فاشرقي بدم الوتين، وقال‏:‏ كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها ‏.‏

وتقدّم نقل ما اعترض الناس عليه في هذا البيت بسوء مكافأته لناقته في الشاهد الستين بعد المائة‏.‏

وقوله‏:‏ أفاد سماحة الخ قال الجوهريّ‏:‏ أفدت المال‏:‏ أعطيته غيري، وأفدته‏:‏ استفدته‏.‏ والجامد بالجيم، اليابس، كناية عن الشحّ‏.‏ واللّحز ، بفتح اللام وكسر الحاء المهملة وآخره زاء معجمة، هو البخيل الضيّق الخلق والضّنين‏:‏ البخيل‏.‏

وقوله‏:‏ تلقّاها عرابة باليمين ، قال شارح الديوان‏:‏ اليمين القوّة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لأخذنا منه باليمين ‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بيمينه لا بشماله‏.‏ واليمين عندهم أحمد بن اليسرى‏.‏

وقال المبّرد في الكامل‏:‏ قال أصحاب المعاني‏:‏ معنلاه بالقوة‏.‏ وقالوا مثل ذلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسّموات مطويّات بيمينه ‏.‏ قال المبّرد‏:‏ وكان هذا الشعر ارتفاع عرابة بن أوس‏.‏

وسبب الشعر أنّ عرابة قد من سفر، فجمعه والشمّاخ الطريق فتحادثا، فقال له عرابة‏:‏ ما الذي أقدمك المدينة‏؟‏ قال‏:‏ قدمت لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله برّاً وتمراً وأتحفه بغير ذلك، فقال الشّماخ هذا الشعر‏.‏

وقال معاوية لعرابة بن أوس‏:‏ بم سدت قومك‏؟‏ قال‏:‏ لست بسيّدهم ولكنّي رجلٌ منهم‏.‏ فعزم عليه، فقال‏:‏ أعطيت في نائبتهم، وحملت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم؛ فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصّر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزني فهو أفضل منّي‏.‏

وقوله‏:‏ فنعم المرتجى الخ ، المخصوص بالمدح محذوف، أي‏:‏ عرابة‏.‏ وركدت إليه، أي‏:‏ بركت عند عرابة، ويقال دام سيرها إليه، والراكد‏:‏ القائم‏.‏ البعير ‏.‏ والإبل توصف بصغر الكركرة، وشبّه رحى حيزومها برحى الطّحين في الصّلابة لا في العظم، فإنه عيب‏.‏

وقوله‏:‏ إذا ضربت على العلاّت الخ ، يقول‏:‏ إذا ضربت على ما كان بها من علة حطت إليك، أي‏:‏ اعتمدت عليك اعتماد هاديةٍ أي‏:‏ أتان متقدمة‏.‏ والشّنون ، بفتح الشين المعجمة وضمّ النون، بين السمين والمهزول‏.‏

وقوله‏:‏ توائل من مصكّ الخ ، توائل تفاعل، من وأل بمعنى نجا، أي‏:‏ تنجو وتهرب تلك الأتان من مصكّ، أي‏:‏ حمار شديد، بكسر الميم وفتح الصاد المهملة، والكاف مشددة‏.‏ وأنصبته‏:‏ من النّصب وهو التعب‏.‏ وحوالب فاعل أنصبته، وهي ما تحلّب وسال من أنفه وذكره؛ أي‏:‏ ذكره يذنّ بماء ظهره فهما حوالب أسهريه، لشدّة شبقه‏.‏ والذّنين ، بفتح الذال المعجمة ونونين الشيء الذي يسيل ويجري، وقد ذنّ يذنّ ذنيناً، إذا سال وجرى‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ حوالب أسهريه هما عرقا الذكر اللذان يظهران إذا أنعظ‏.‏ ويقال الأسهران‏:‏ عرقان في أصل القفا يجري فيهما الماء حتّى يبلغ الذكر‏.‏ ويقال‏:‏ اللذنين‏:‏ الذكر‏.‏ كذا قال شارح الديوان‏.‏

وقوله‏:‏ متى ينل القطاة الخ ، أي‏:‏ متى ينل الحمار قطاة الأتان، وهو موضع الرّدف، يرك عليها أي‏:‏ يتورّك عليها‏.‏ وحنو الرأس ، بكسر المهملة‏:‏ جانب الرأس‏.‏ وفوقه‏:‏ معترض الجبين ، أي‏:‏ جبينه في ناحية من شدّة نشاطه‏.‏

وقوله‏:‏ شجّ بالرّيق ، أي‏:‏ غصّ ذلك الحمار بريقه إذ حرمت عليه، وذلك أنّها حاملٌ، وهي محصنة الفرج، يعني الأتان‏.‏ والواسقة‏:‏ الحاملة‏.‏ والجنين‏:‏ الولد في بطنها‏.‏ فليس في الأرض أنثى تحمل فتمكن الفحل ما خلا المرأة‏.‏

وقوله‏:‏ طوت أحشاء الخ ، أي‏:‏ هذه الأتان ضمّت أحشاء مرتجة، أراد رحمها، أي‏:‏ أغلقت رحمها على ماء الفحل‏.‏ والمشج ، بفتح الميم وكسر الشين‏:‏ ماء الفحل مع الدم، وقيل ماء الفحل والأتان جميعاً يختلطان‏.‏ وسلالته أي‏:‏ ماؤه، وهو فاعل مشج، ويقال‏:‏ السلالة الولد، وهو الرقيق‏.‏ ومهين‏:‏ ضعيف، وهو صفة مشج‏.‏

كذا قال شارح الديوان‏.‏ وهذا البيت أورده صاحب الكشّاف عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمشاجٍ نبتليه ، على أنّه يقال‏:‏ مشجٌ كما يقال أمشاج وكلاهما مفرد‏.‏

قال شارح شواهد التفسيرين خضرٌ الموصليّ‏:‏ يجوز أن يكون سلالته مبتدأ وخبره مهين، وإنما لم تؤنئ إمّا لأنّه فعيل بمعنى مفعول أبو بمعنى فاعل لكنه حمل عليه، ولأنّ المراد شيء مهين‏.‏ والجملة صفة لمشج‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقد غفل عن القوافي مع أنّه أورد القصيدة فإنّها مجرورة، فمهين مجرور لا مرفوع حتّى يصح أن يقع خبر المبتدأ‏.‏

والمعنى أنّ هذه الأتان أطبقت رحمها إلى وقت الولادة على النّطفة، فلا تمكّن الحمار منها، فهي تهرب منه تهرب منه بأشدّ ما يكون، فناقة الشّماخ تشبه هذه الأتان في الإسراع للتوجّه إلى هذا الممدوح‏.‏

وقوله‏:‏ إليك بعثت الخ ، المقحد ، بفتح الميم وسكون القاف وكسر الحاء المهملة‏:‏ السّنام‏.‏

وقوله‏:‏ إذا بركت على شرف الخ ، الشّرف ، بفتحتين‏:‏ الموضع العالي‏.‏ والعسيب هنا‏:‏ عظم العنق، ويأتي بمعنى عظم الذنب‏.‏ والجران بكسر الجيم‏:‏ باطن العنق، وهو الذي يمسّ الأرض عند مدّ عنقه عليها‏.‏ وشبّه العسيب بعضا الهجين لخفّته وطوله‏.‏ وخصّ الهجين لأنّ العبيد كانوا يرعون الإبل ويستجدون العصا‏.‏ وجواب إذا هو قوله‏:‏ كأن محاز لحييها البيت الآتي‏.‏

وقوله‏:‏ إذا الأرطى توسّد الخ ، هذا البيت من أبيات أدب الكاتب لابن قتيبة‏.‏ والأرطى‏:‏ شجرٌ من أشجار البادية تدبغ به الجلود، وهو مفعول لفعل محذوف، أي‏:‏ إذا توسّد الأرطى‏.‏ وأبرديه بدل اشتمال من الأرطى‏.‏ ومعنى توسّد أبرديه اتخذهما كالوسادة‏.‏ والأبردان، الظل والفيء، سميّا بذلك لبردهما‏.‏ والأبردان أيضاً‏:‏ الغداة والعشي‏.‏ وخدود فاعل توسّد‏.‏

والجوازئ‏:‏ الظباء‏.‏ وبقر الوحش سميّت جوازئ، لأنّها اجتزأت بأكل النبت الأخضر عن الماء، أي‏:‏ اكتفت به واستغنت عن شرب الماء‏.‏ والعين الواسعات العيون، جمع عيناء‏.‏ والمعنىأنّ الوحوش تتخذ كناسين عن جانبي الشجر تستتر فيهما من حرّ الشّمس، فترقد قبل زوال الشمس في الكناس الغربي، فإذا زالت الشمس إلى ناحية المغرب وتحول الظلّ فصار فيئاً زالت عن الكناس الغربيّ ورقدت في الكناس الشرقيّ‏.‏

والمعنى أنه قطع الفلاة في الهاجرة حين تفرّ الوحوش من حرّ الشمس‏.‏ يمدح نفسه بذلك ويوجب على الممدوح رعاية حقّه‏.‏ فقوله‏:‏ إذا الأرطى، ظرف لقوله بعثت في البيت السابق، وليس شرطيّة حتّى يقدّر لها جزاء، خلافاً لابن السيد‏.‏

وقوله‏:‏ كأن محاز لحييها الخ ، هذا جواب إذا الأولى‏.‏ أخبر أنها تطأطئ رأسها من الذباب فتلزقه بالحصى فتدفع الحصى بلحييها‏.‏ فأخبر أنّ تلك الأرض التي دفعت الحصى عنها كأنها جلد أجرب لم يبق عليه من الوبر إلاّ القليل‏.‏

يقول‏:‏ تقع معيبةً فتمد جرانها فتفحص التراب والحصى، فكأن ذلك الفحص جناباً بكسر الجيم أي‏:‏ ناحيتا جلدٍ أجرب‏.‏ وضمير حصاه للرمل‏.‏

وقد ذكر أبو الفرج الأصبهانيّ في الأغاني حكايةً مستظرفة، لقوله إذا الأرطى توسّد أبرديه البيت، فرأيت ذكرها في هذا الموضع‏.‏

عن المدائنيّ أنّ عبد الملك بن مروان نصب الموائد يطعم الناس، فجلس رجلٌ من أهل العراق على بعض الموائد، فنظر إليه خادمٌ لعبد الملك فأنكره فقال‏:‏ أعراقيٌّ أنت‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏!‏ فقال‏:‏ بل أنت جاسوس‏!‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ويحك‏!‏ دعني أتهنأ طعام أمبر المؤمنين ولا تنغّصه عليّ‏.‏ ثمّ إن عبد الملك أقبل يطوف على الموائد فوقف على تلك المائدة فقال‏:‏ من القائل‏:‏ إذا الأرطى توسّد أبرديه وما معناه‏؟‏ ومن أجاب فيه أجزناه‏.‏ فقال العراقيّ للخادم‏:‏ أتحبّ أن أشرح لك ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ فقال هذا البيت يقوله عديّ بن زيد في صفة البطّيخ الرمسي‏.‏ فنهض الخادم مسروراً إلأى عبد الملك فأخبره، فضحك عبد الملك حتّى سقط، فقال له الخادم‏:‏ أخطأت يا مولاي أم أصبت‏؟‏ فقال‏:‏ بل أخطأت‏.‏ فقال‏:‏ هذا العراقيّ لقّنني إياه‏.‏ فقال‏:‏ أيّ الرجال هو‏؟‏ فأراه إياه‏.‏

فقال‏:‏ أأنت لقنته هذا‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ صواباً لقّنته أم خطأ‏؟‏ فقال‏؟‏ فقال‏:‏ بل خطأ‏.‏ فقال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأني كنت متحرماً بمائدتك فقال لي كيت وكيت، وأردت أن أكفّه عنّي وأضحكك منه‏.‏ فقال له عبد الملك‏:‏ فكيف الصواب‏؟‏ فقال‏:‏ هذا البيت يقوله الشمّاخ بن ضرار في صفة البقر الوحشيّة التي جزأت بالرّطب عن الماء، فقال‏:‏ صدقت وأمر له بجائزة، ثم قال له‏:‏ ألك حاجة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ وما هي‏:‏ تنحّي هذا عن بابك، فإنه يشينه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع بعد الثلاثمائة

الطويل

فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنّه *** سيرضيكما منها سنامٌ وغاربه

على أنّ الفرّاء يجيز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كما في البيت، فإنّ النّجاء والجلد مترادفان، وقد تضايقا‏.‏

وهو معنى قول المراديّ في شرح الألفيّة‏:‏ نجا الجلد من إضافة المؤكّد إلى الكؤكد، قال صاحب الصحاح‏:‏ النّجا مقصورٌ من قولك‏:‏ نجوت جلد البعير عنه وأنجيته، إذا سلخته‏.‏

قال الشاعر يخاطب ضيفين طرقاة‏:‏

فقلت انجوا عنها نجا الجلد *** إنّه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال الفرّاء‏:‏ أضاف النّجا إلى الجلد لأنّ العرب تضيف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولك‏:‏ عين اليقين، ولدار الآخرة‏.‏ والجلد نجاً مقصور أيضاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال القالي في المقصور والممدود‏:‏ والنّجا ما سلخته عن الشاة والبعير، يكتب بالألف، لأنّه من نجا ينجو‏.‏ وأنشد هذا البيت عن الفرّاء عن أبي الجرّاح‏.‏ فيكون أصله نجو بالتحريك، قلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها‏.‏

قال الزّجاجيّ في تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏:‏ معنى النّجوى في الكلام ما تنفرد به الجماعة والاثنان، سرّاً كان وظاهراً، ومعنى نجوت الشيء في اللغة خلّصته وألقيته، يقال نجوت الجلد‏:‏ إذا ألقيته عن البعير وغيره، وأنشد هذا البيت‏.‏

وقال أبو القاسم عليّ بن حمزة البصريّ في التنبيهات على أغلاط الرواة‏:‏ لا يقال في الإبل سلخت، وإنّما يقال فيها خاصّة نجوت وجلّدت‏.‏

قال أبو زيا‏:‏ نجوت جلد البعير وجلّدت البعير تجليداً، ولا تقول سلخت إلاّ لعنقه، فإنهم يقولون ذلك فيه دون سائر الجسد‏.‏

وقال ابن السيرافيّ في شرح أبيات إصلاح المنطق‏:‏ يريد قشّرا عنها لحمها وشحمها، كما يقشّر الجلد، فإنها سمينة‏.‏ وغاربها‏:‏ ما بين السّنام والعنق‏.‏

ويؤخذ من هذا التفسير أن النجا هنا اسم مصدر بمعنى النجو، منصوبٌ على أنّه مفعول مطلق وليس اسماً للجلد‏.‏ فلا يكون كما قاله الفرّاء‏.‏ فتأمّل‏.‏

ورأيت في حاشية الصحاح لابن بريّ نسبة هذا البيت لعيد الرحمن بن حسّان بن ثابت رضي الله عنه‏.‏

ونقل العينيّ عن العباب للصاغاني أنّه لأبي الغمر الكلابيّ، وقد نزل عنده ضيفان فنحر لهما ناقةً، فقالا‏:‏ إنّها مهزولة‏.‏ فقال‏:‏ معتذراً لهم‏:‏ فقلت انجوا الخ ‏.‏

قال‏:‏ وقبله بيتان آخران وهما‏:‏

وردت وأهلي بين قوّ وفردةٍ *** على مجزر تأوى إليه ثعالبه

فصادفت خيري كاهلٍ فاجآ به *** يشفّان لحماً بان منه أطايبه

وقد فتشت العباب فلم أظفر فيه بشيء مما قاله، والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏ وقوّ - بفتح القاف وتشديد الواو - هو وادٍ بالعقيق عقيق بني عقيل‏.‏ وفردة - بفتح الفاء وسكون الراء بعدها دال - ماءٌ من مياه نجدٍ لجرم‏.‏ كذا في معجم البكريّ‏.‏ ومجزر بكسر الزاي موضع الجزر‏.‏ وكاهل‏:‏ أبو قبيلة، وهو كاهل بن أسد بن خزيمة‏.‏ وفاج‏:‏ أي أتى بغتة‏.‏ ويشفّان‏:‏ من شفّه الهمّ يشفّه بالضم أي‏:‏ هزله، أي‏:‏ اللحم الذي ظهر منه أطايبه قالا إنه مهزول‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد العاشر بعد الثلاثمائة‏:‏

الخفيف

ملكٌ أضلع البريّة لا يو *** جد فيها لما لديه كفاء

على أنّ إضافة أفعل التفضيل عند أبي بكر بن السرّاج ومن تبعه لفظّية لا تفيد تعريفاً، بدليل هذا البيت، فإنّ أضلع البريّة وقع نعتاً لملك، وهو نكرة، فلو كانت تفيد التعريف لما صحّ وقوعه نعتاً لنكرة‏.‏

قال أبو عليّ في التذكرة القصرّية‏:‏ قال أبو بكر، في أفعل الناس نحو أشرف الناس وأفضل القوم‏:‏ إنّ هذه الإضافة في تقدير الانفصال، لأنّ ما تضيفه من هذا القبيل ينبغي أن يكون بعض ما يضاف إليه، بدلالة امتناع زيد أفضل الحمير، فيجب أن يقدّر الانفصال، وإلاّ لم يجز، لئلا تضيف الشيء إلى نفسه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإنّ ما يقدّر فيه الانفصال نجد فيه معنى الفعل، نحو ضارب وليس في أفعل معنى الفعل؛ قيل‏:‏ هذا وإنّ قصّر عن فاعل فإن فيه معنى الفعل لنصبه الظرف في بيت أوس‏:‏ أحوج ساعةً ، ووصوله تارةً بالحرف وأخرى بنفسه نحو أعلم بمن وأعلم من ، وهذا مما يختصّ بالفعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا قدّرت فيه الانفصال اقتصرت به على النكرة كضارب زيد‏.‏ قال‏:‏ فتبارك الله أحسن الخالقين ‏.‏ فالجواب عندي نعم، وذلك قوله‏:‏ ملك أضلع البريّة البيت ‏.‏ وأما قوله‏:‏ أحسن الخالقين فيكون مقطوعاً، أي‏:‏ هو أحسن الخالقين، لأنّه موضع ثناء‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من معلّقة الحارث بن حلّزة، وهي سابعة المعلّقات السبعة، وقد تقدّم جانب منها مع ترجمته في الشاهد الثامن والأربعين وقطعة في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائتين ونقلنا في الموضعين سبب نظمه لهذه المعلقة، وفي الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة أيضاً‏.‏

وقبل البيت الشاهد‏:‏

فملكنا بذلك النّاس حتّى *** ملك المنذر بن ماء السّماء

وهو الرّبّ والشّهيد على يو *** م الحيارين والبلاء بلاء

ملكٌ أضلع البريّة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقوله‏:‏ فملكنا بذلك ، في هذا البيت إقواء، فإنّه مجرور القافية‏.‏ وقيل هذا البيت منحول إليه، ليس من القصيدة‏.‏

وقوله‏:‏ بذلك يعني بالعزّ والامتناع وبالحروب التي كان الغلب لنا فيها دللّنا الناس حتّى ملك المنذر بن ماء السماء‏.‏

وقوله‏:‏ وهو الربّ الخ ، الربّ عنى به المنذر بن ماء السماء‏.‏ والربّ ، في هذا الموضع‏:‏ السيد‏.‏ والشهيد الحاضر‏.‏ والحياران‏:‏ بلدٌ، وهو بكسر الحاء المهملة بعدها مثّناة تحتيّة‏.‏ يخبر أنّ المنذر كان شهد يوم الحيارين‏.‏ فإنّ المنذر غزا أهل الحيارين ومعه بنو يشكر، فأبلوا بلاءً حسناً، وكان البلاء في ذلك اليوم بلاء عظيماً‏.‏

وقوله‏:‏ ملك أضلع الخ ، خبرٌ آخر لقوله هو، فيكون مشاركاً للرب ف يالخبريّة، فإنّ الأخبار يجوز أن يأتي بعضها بالعطف وبعضها بدونه كما هنا‏.‏ وأضلع البريّة أي‏:‏ أشدّ البرية إضطلاعا لما يحمّل، أي‏:‏ هو أحمل الناس لما يحمل، من أمر ونهي وعطاء وغير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ لا يوجد فيها الخ ، معناه ليس في البرية أحدٌ يكافئه، ولا يستطيع أن يصنع مثل ما يصنع من الخير‏.‏ والكفاء ، بالكسر‏:‏ المثل والنظير، يقال‏:‏ فلان كفاءٌ لفلان، أي‏:‏ كفءٌ له ونظير‏.‏

وروي‏:‏ ملك أضرع البريّة على أنّه فعل ماض، أي‏:‏ أذلّ البرية زقهرها، فما يوجد فيهم من يساويه في معاليه، وحينئذ لا شاهد في البيت‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الحادي عشر بعد الثلاثمائة

الطويل

ولم أر قوماً مثلنا خير قومهم *** أقلّ به منّا على قومهم فخرا

لما تقدّم قبله؛ فإنّه وصف النكرة وهي قوماً بخير، وهو بمعنى التفضيل، ولو كانت الإضافة معنوية للتعريف لما وقع صفة للنكرة‏.‏

قال الشّلوبين في حاشية المفصّل‏:‏ هذا إذا جعلت خيراً للتفضيل، فإنّ جعلت خيراً فيهما من الخير الذي هو ضدّ الشرّ، لم يكن من هذا الباب‏.‏

وجوّز شرّاح الحماسة أن يكون خير قومهم بدلاً أيضاً من قوما، لكن قال ابن جنّي في إعراب الحماسة‏:‏ في هذا البيت شاهدٌ لجواز‏:‏ مررت برجل أكرم أصحابه على أصحابه، على الصّفة، لأنّها هنا أظهر من البدل، والهاء في به ضمير الخير الذي دلّ عليه قوله‏:‏ خي قومهم، وليس الثاني هو الأوّل، لأنّ خيراً الأوّل صفة، والثاني المقدّر مصدر، كقولك‏:‏ أنا أوثر الخير وأكره الشر، فدلّت الصفة على المصدر‏.‏

كقول الآخر‏:‏ الوافر

إذا نهي السّفيه جرى إليه *** وخالف والسّفيه إلى خلاف

انتهى وقوله‏:‏ أقل ، بالنصب مفعول ثان لقوله‏:‏ لم أر‏.‏ وفخراً تمييز‏.‏ وتقدير البيت‏:‏ لم أر خير قومٍ مثلنا أقلّ بذلك فخراً منّا على قومنا‏.‏

والمعنى إنّا لا نبغي على قومنا ولا نتكبّر عليهم، بل نعدّهم أمثالنا ونظراءنا فنباسطهم ونوازنهم قولاً بقول، وفعلاً بفعل‏.‏

وهذا البيت أول أبيات ثلاثةٍ مذكورة في الحماسة لكن جميع النسخ والشروح تجتمع على إسقاط الواو من قوله‏:‏ ولم أر قوماً، على أنه مخروم‏.‏ والبيتان اللذان بعدهما‏:‏

وما تزدهينا الكبرياء عليهم *** إذا كلّمونا أن نكلّمهم نزرا

ونحن بنو ماء السّماء فلا نرى *** لأنفسنا من دون مملكةٍ قصرا

زهاه وأزهاه بمعنى تكبّر، والزّهو‏:‏ الكبر والفخر‏.‏ ونزراً أي‏:‏ قليلاً، وهو مفعول مطلق، أي‏:‏ كلاماً قليلاً، والمعنى لا يستخفنا الكبر، إلى أن نتعلّى عليهم، ونقلّل الكلام معهم ترفعاً عن مساواتهم، بل نباسطهم ونكاشرهم في القول والسؤال، إيناساً لهم وتسكيناً منهم‏.‏ وماء السماء ، قال في الصحاح‏:‏ هو لقب عامر بن حارثة الأزديّ، وهو أبو عمرو مزيقيا الذي خرج من اليمن لما أحسّ بسيل العرم، فسمّي بذلك، لأنّه كان إذا أجدب قومه مانهم حتّى يأتيهم الخصب، فقالوا‏:‏ هو ماء السماء، لأنّه خلفٌ منه‏.‏ وقيل لولده بنو ماء السماء، وهم ملوك الشام‏.‏

قال بعض الأنصار‏:‏ الوافر

أنا ابن مزيقيا عمرو وجدّي *** أبوه عامرٌ ماء السّماء

وماء السماء أيضاً‏:‏ لقب أمّ المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن نصر اللّخميّ‏.‏ وهي ابنة عوف بن جشم، من النّمر بن قاسط‏.‏ وسمّيت بذلك لجمالها؛ وقيل لولدها بنو ماء السماء، وهم ملوك العراق‏.‏

وقال زهير بن جناب‏:‏ الوافر

ولازمت الملوك من أل نصرٍ *** وبعدهم بني ماء السّماء

انتهى فالظاهر أنّ المراد هنا هو الأوّل؛ لأنّ قائل الأبيات أنصاري، وهو زيادة بن زيد الحارثي من بني الحارث بن سعد أخو عذرة‏.‏

وقال أبو رياش‏:‏ هو زيادة بن زيد، من سعد هذيم بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة‏.‏ كذا قال التبريزيّ‏.‏ وزيادة شاعر إسلاميّ في الدولة الأموية، قتله ابن عمه هدبة بن خشرم‏.‏ ويأتي إن شاء الله سبب قتله عند ذكر هدبة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني عشر بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الوافر

فأيّي ما وأيّك كان شر *** فقيد إلى المقامة لا يراها

على أن هذا ضرورة، والقياس المستعمل‏:‏ فأيّناكان شرّاً من صاحبه‏.‏ وما زائدة للتوكيد، وأيّي مبتدأ، وأيّك معطوف عليه، واسم كان ضمير، أي‏:‏ أيّنا، وشرّاً خبره، والجملة خبر المبتدأ، وقيد مجهول قاد الأعمى‏.‏ وجيء بالفاء لأنّه دعاء فهو كالأمر‏.‏ والمقامة ، بضم الميم وفتحها‏:‏ المجلس، وجملة لا يراها حالٌ من ضمير قيد‏.‏ يدعو على الشرّ منهما، أي‏:‏ من كان منّا شرّاً أعماه الله في الدّنيا فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه‏.‏

وقال شارح اللباب‏:‏ أي‏:‏ قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها، أي‏:‏ قيد أعمى لا يرى المقامة‏.‏ انتهى‏.‏

وحمل الدّعاء على الآخرة لا على الدنيا غير جيّد‏.‏ وهذا من المعاملة بالإنصاف‏.‏

وهذا البيت من جملة أبياتٍ للعبّاس بن مرداس السّلميّ، قالها لخفاف بن ندبة في أمرٍ شجر بينهما، وهي‏:‏

ألا من مبلغٌ عنّي خفاف *** ألو كاً بيت أهلك منتهاها

أنا الرّجل الذي حدّثت عنه *** إذا الخفرت لن تستر براها

أشدّ على الكتيبة لا أبالي *** أفيها كان حتفي أم سواها

فأيّي ما وأيّك كان شرّ *** فقيد إلى المقامة لا يراها

ولا ولدت له أبداً حصانٌ *** وخالف ما يريد إذا بغاها

ولي نفسٌ تتوق إلى المعالي *** ستتلف وأبلّغها مناها

وخفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء كغراب، واشتهر بالإضافة إلى أمه، وهي ندبة، بفتح النون وسكون الدال بعدها باء موحّدة‏.‏ وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كالعبّاس بن مرداس‏.‏

وتقدّمت ترجمة العبّاس في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب، أما ترجمة خفاف بن ندبة فستأتي إن شاء الله تعالى في باب اسم الإشارة ‏.‏

وألوك بفتح الهمزة وضم اللام‏:‏ الرسالة، ومنها الملائكة‏.‏ وحدّثت بالبناء للمفعول والخطاب‏.‏ والخفرات‏:‏ النساء الحيّيات، بفتح الخاء وكسر الفاء؛ والفعل من باب تعب‏.‏ والبر‏:‏ جمعه بره بضم الباء الموحّدة فيهما، وهي كلّ حلقة من سوار وقرط وخلخال؛ والمراد هنا الأخير‏.‏ وعدم ستر الخلاخيل للنساء إنّما يكون عند هروبهن من السبيّ والنهب‏.‏ وإذا ظرف، إمّا لقوله حدّثت ولقوله أشدّ على الكتيبة‏.‏ ومثل هذا يسمى التجاذب ‏.‏

وقوله‏:‏ أشد على الكتيبة ، وقيل‏:‏ لم يقل في الشجاعة أبلغ من هذا البيت‏.‏ والكتيبة‏:‏ الجيش‏.‏ والحتف‏:‏ الهلاك‏.‏ وقوله‏:‏ فقيد إلى المقامة ، روي أيض‏:‏ فسيق إلى المقامة من السّوق‏.‏

وقوله‏:‏ ولاولذت له الخ ، هذا دعاءٌ عليه بقطع نسله، والخصان بالفتح‏:‏ المرأة العفيفة‏.‏ وتتوق ، تاقت نفسه إلى الشيء اشتاقته ونازعت إليه وتلف الشيء من باب فرح إذا هلك‏.‏

وأنشده بعده‏:‏ وهو